16 أكتوبر 2006

جراح الروح والجسد٢


أعرف كل شيء واصمت. لأنه لن يصدقوني. لن يصدقوا أنها كانت تأخذني الى تلك الشقة في منطقة على أطراف المدينة . كنا ندخل تلك الشقة المتعفنة التي تنبعث منها رائحة البول والنتانة , كان هناك نسوة كثيرات من مختلف الأعمار والأحجام والألوان . تترأسهن عجوز شمطاء , عيناها لا تهدآن عن اللمز والغمز, ترتدي الحجاب والجميع يناديها بالحاجة . شكلها يبعث على الاشمئزاز . تأخذني " الحاجة " الى غرفة وسخة , تعطيني بعض " الحلوى والشاي " و قبل أن تقفل الباب علي تقول :

- غادي ندير لأختك " اللدون " و نبخرها , فيها " المسلمين ". أنت صغيرة حتى تكبري و نبخرك. تقفل الباب و تذهب . أنظر من ثقب الباب أرى نساء و رجالا في غرفة بعيدة . أراهم بصعوبة , لا أستطيع تمييز وجوههم . لكن أصواتهم و ضحكاتهم كانت تصلني بين الفينة والأخرى , ضحكات كنباح الكلاب.

مرة حاولت الثورة . سباب و شتم , دخلت في معركة كلامية مع خديجة. سباب و شتم منها و مني . ولا أدري كيف تطور الأمر فأصبح معركة بالأيادي . خلصتني والدتي من يدها . يومها قلت كل شيء لوالدتي وامام جميع شقيقاتي :
السينما , الرجال , كل الملفات السوداء . أخذت خديجة تبكي بهستيريا و تضرب رأسها بالحائط والدم ينزف من أنفها , و تقسم بالله و مكة والقرآن ولا أدري ماذا كذلك أن ما لأقوله كذب و تلفيق . و تبحث عن مصحف لا تجده و تحلف بقطع يديها واصابتها بالسرطان , - السيدا لم تكن مجودة آنذاك - أنا نفسي فوجئت بقدرتها الفائقة على التمثيل . كيف لم يكتشفوها بالسينما ؟ ممثلة بارعة .
هدأتها والدتي و قالت كحسم للموقف :

- اذا كنت محقة في ما تقولين - والكلام موجه لي - فلنذهب الى هذه الشقة لأرى بنفسي .
واسقط في يدي . لقد ذهبت الى هذه الشقة مرات كثيرة , لكن لا أستطيع تحديد المكان بالضبط . توجد في بعض الحواري والأزقة المتشعبة والمتشابهة . لم نكن نسلك طريقا واضحا . خديجة كانت ذكية تسلك بي طرقا ملتوية , ربما كانت تحسب حساب هذا اليوم . و كررت والدتي السؤال :

- أين توجد هذه الشقة ؟ خذيني اليها .
- تلعثميت :
- كنا نركب الحافلة و تتوه الكلمات ولا أعرف تحديد المكان . تستشيط والدتي غضبا . أنظر اليها . أعرف تتمنى والدتي لواكون كاذبة و كل ما أقوله افتراء . لا أعرف تحديد المكان . ترفع يدها و تصفعني . صدقت خديجة وكذبتني . من يومها قررت الصمت . تشتري لي الملابس بنقودها المدنسة , تأخدني الى السينما , تستري لي " الزريعة " و " كاوكاو" , تذهب الى الجحيم وابقى في الحديقة أنتظر عودتها الميمونة . أشتري اسفنجة مليئة زيتا , أنظر للمارة , يأتون , يذهبون , يضحكون , يصرخون , وراء كل شخص حكاية . أحاول أن أتخيل حكاية كل واحد يمر أمامي . مثلا هذا الشخص الذي يجلس على المقعد المواجه لي بجانب حبيبته ماذا عساه يقول لها ؟ ما هي هذه المواضيع المهمة التي يحكيها لها ؟ و لماذا هي مطأطئة راسها ؟ و هذا الرجل القميء القبيح , يبدو موظفا جد بسيط . لا بد أنه متزوج و لديه دزينة من الأولاد , و لديه بنت مثل خديجة , تذهب مع كل الرجال لكي تشتري أساور ذهبية تملأ بها الخزانة؟ أمل هذه اللعبة. أرى شرطيا. أسرح بأفكاري ثانية , أتخيلني رجلا شرطيا طويل القامة . ألقي القبض على " قدور القذر" أضربه ضربا مبرحا في بطنه . أحمل سيخا حديديا أضعه في النارحتى يحمر واكوي قضيبه حتى ينتفخ واراه يتلوى أمامي من الألم . يركع عند قدمي يقبلهما وانا أرفسه بقدمي و بعنف واغرز أظافري في وجهه حتى يسيل الدم واعلقه في ميدان عام و يرجمه الأطفال بالحجارة و يموت . تأكل الكلاب جثته النتننة . تهزني يد بعنف. أستفيق من حلمي الرائع . كانت خديجة , أتت من عند صديقتها الاخوانية و في يمناها سلة مليئة بأشياء كثيرة . كان يبدو عليها العياء . تحاول امساك يدي , أتملص منها أعبر الشارع و حدي , تسألني كالمعتاد :
- أين كنا ؟
- أنا شخصيا كنت في الحديقة , اما انت فلا أدري .
تصرخ في و جهي :
- نحن الاثنتين كنا عند صديقتي الاخوانية .
أنظر اليها بكره واستهزاء :
- واي سورة شرحتم اليوم ؟
- رأسي تؤلمني وليست لدي رغبة في مجادلتك . أنظري هذه السلة المليئة جبنا وشوكولاطة وساعة يد لك أنت .
- ساعة يد ؟ و لي أنا ؟
- نعم و من أحدث طراز . اسمعي قولي لأمي أنك وجدتها في الحافلة .
- لا أحب الساعات و لن أقول شيئا .
- بل ستقولين والا فاني سأختلق أية حكاية لسجنك في المرحاض المظلم المليء بالصراصيروالفئران والعفاريت .

ابتلعت ريقي بصعوبة . المرحاض في حد ذاته لا يخيفني , لكن الصراصير والفئران والعفاريت ؟ لا. قلت باستسلام :
- حاضر سأفعل ما تريدين . صمتت قليلا ثم سألتها :
- ألا تخافين الله ؟
فغرت فاها ثم قطبت حاجبيها و قالت :
- لماذا تسألين ؟ و لماذا أخاف ؟ هل أسرق ؟ هل أعترض طريق المارة واسلبهم أرزاقهم ؟
قلت ببرود :
- لا. تذهبين مع كل الرجال فقط .
لم أحس الا و كفها القوية تهوي على صدغي و نجوم ملونة أمام عيني .
- هذه الليلة سأعلقك في المرحاض . لا أكل ولاشرب يا بنت الكلاب .

أتذكر كل شيء بوضوح كأنه حدث بالأمس فقط . أول مرة دخلت فيها المدرسة , الصفعة رقم ألف , الاغتصاب واول سيجارة . قال لي :
- اسحبي نفسا عميقا و حاولي أن تنفثي الدخان من أنفك . أجل هكذا.
كنت أسعل بقوة وامسح الدموع من عيني . كان بوابا باحدى العمارات في سن أبي أواكبر قليلا , يرتدي جلابية بنية عفنة و طاقية مراكشية . كنت برفقة خديجة . قالت له :
- أريد أن أغير ملابسي و سأترك هذه أمانة عندك , واشارت الي .
شعرت بالخوف . الى أين تنوي الذهاب ثانية ؟
أمسكت يدها . زجرتني :
- اجلي هناك .

أتكوم في ركن الغرفة , تنزع جلبابها الرمادي و منديل رأسها . ترتدي فستانا أسود ضيقا جدا , فوق الركبتين بكثير, يكشف عن استدارة نهديها , يفضح أكثر مما يستر. تلبس حذاء بكعب عال جدا . تنظر في بقايا مرآة مكسورة و تضع الأحمر والأزرق والأخضر و تقرص خديها و تنظر لمؤخرتها و تعصر نهديها بكلتا يديها . تبتسم في رضى و تقول :

- اجلسي هنا عمي ابراهيم سيأتيك بزجاجة كوكاكولا.
- لاتتركيني مع أحد أرجوك .
تدفعني بعنف :
- لن أبتعد كثيرا سأكون بالطابق الأول .
- خذيني معك أرجوك .
- صديقتي مريضة ولا تحب الاطفال.
- لم أعد طفلة .
ذهبت . لماذا لاينتقم الله منها ؟ في كل الأفلام التي نراها يعذب الله الأشرار و ينتقم منهم و ينصر المظلومين . لكن متى ينتقم الله منها ؟ متى ينتهي هذا المسلسل ؟ يبدو ان الأشرار يموتون في الأفلام فقط أما في الواقع شيء آخر.
ابتسم " عمها ابراهيم " بعد أن ناولته خديجة بعض النقود . نظر الي وابتسم ثانية. افترت شفتاه الغليظتان عن أسنان صفراء صدئة . سألني وهو ينظر الي من فوق لتحت :
- كم عمرك ؟
لم أجبه. عاود النظر الي و قال :
- استديري .
أحسست بقلبي يكاد يتوقف عن الخفقان . الرجل الأسود , الحرق في فخذي و " قدور القذر". صرخ في وجهي ثانية :
- استديري .
استدرت نصف دورة وكنت أنظر بتوجس و حذر. لوى شفتيه امتعاضا و نظر الي كأني طعام حامض :
- انك نحيفة , ألا تأكلين ؟ أوف نحيفة جدا , لكن عندما تكبرين ستصبحين مثل أختك سمينة جدا و ستصبح هذه - واطبق على مؤخرتي بكلتي يديه –مليئة شحما و لحما, ستصبح شهية .
هربت من قبضته ووقفت قرب الباب المغلق :
- أين أختي ؟ خذني اليها .
ضحك ضحكته الكريهة و ظهرت أسنانه الصدئة :
- أختك فوق.
وشكل صفرا بيده اليسرى وادخل فيها سبابة اليد اليمنى بطريقة وقحة واكمل :
- عندما تكبرين ستصبحين مثلها " تدربك من دابا " .
حاولت فتح الباب , لكنه كان مغلقا بالمفتاح . ضحك ملء شدقيه ثم قال:
- تعالي أريك شيئا سيعجبك .
رفع جلبابه واخرج قضيبه . رجلاي كالقطن . قلبي .خديجة حرام عليك . تحسست الحرق في فخذي . المرحاض المظلم المليء بصراصير وعفاريت و فئران , سيخ امي . تبولت بلا شعور وأنا أرتعش.
رفع سرواله وقال بغضب :
- الله يلعن والديك , مسحي الأرض .
سمعت طرقا بالباب . كان رجلا آخر ناول البواب شيئا ما و ذهب . أخذ يقطع ذلك الشيء بسكين حادة حتى أصبح كمسحوق الحناء ووضعه في " السبسي" واخذ يدخن ثم قال :
- اقتربي .
ناولني " السبسي " ثم قال :
- اسحبي نفسا عميقا واخرجي الدخان من انفك هكذا .
سعلت بقوة . مسحت الدموع من عيني أخرج شوكولاطة رخيصة و قال لي :
- خذي هذه لا تقولي لأختك شيئا .
أخذتها وعندما استدار رميتها تحت السرير .
أخيرا جاءت خديجة . اختفت المساحيق من وجهها تماما. وقالت ل " عمها ابراهيم " :
- هل سببت لك هذه " البرهوشة " مشاكل ؟
نظر الي ثم قال :
- بالت على نفسها .
صفعتني ثم قالت :
- الله يمسخك .
ناولته النقود ثانية . نزعت ملابس " العمل " وارتدت الجلابية والبلغة ووضعت المنديل على رأسها كأنها مريم العذراء انتهت للتو من صلاتها .
فتح عمها ابراهيم الباب و خرج هوالأول ليطمئن أن الزنقة خالية من المارة . سمعناه يتحدث لرجل ما ويرحب به . نظرت خديجة من فتحة الباب و شهقت :
- أبي .
حاولت أن أنظر سحبتني بقوة . أغلقت الباب . كانت ترتعش . اصفر لون وجهها واستندت للحائط . دخل عمها ابراهيم وقال :
- الزنقة خالية . مالك ؟
سألته خديجة :
- من ذاك الرجل الذي كنت تتحدث اليه ؟
نزع طاقيته و حك صلعته ثم قال :
- هذاك الحاج . غني جدا , ياه " عنده اللي يتحرق ما يتم ". يأتي من حين لآخر عند الحاجة يفرج عن نفسه . يصرف في اليوم الواحد مرتب موظف محترم . الحاجة تختار له كل مرة أجمل البنات عندها . قد يأتي دورك يوما ما .

كان يتحدث و خديجة تزداد اصفرارا . لم تجبه . سحبتني بقوة واخذت تركض خارج العمارة . تركض و تركض كأن كل العفاريت الموجودة تحت الأرض و فوق الأرض تتعقبها. رجلايا كالقطن يا خديجة يا مجوسية . لا أستطيع الجري . أبي ماذا تفعل أنت الآخر هناك ؟ تبذر أموالك في تلك الشقق و خديجة تأتي بها من هناك . أية سخرية ؟ لم أعد أستطيع الجري . كانت تسحبني . فقدت القدرة على الوقوف . سقطت . جرحت ركبتي . لم تعبأ بي . دخلنا محلبة كنا نلهث.. الدم يسيل من ركبتي و قلبي لماذا لم يتوقف لحد الآن عن الخفقان ؟ و ضحكات بواب العمارة , أسنانه الصدئة , ستصبحين مثل أختك . أختك قحبة كتدربك من دابا , مؤخرتك ستصبح مليئة شحما ولحما, الدم ينزف من ركبتي ورائحة العرق ممتزجة برائحة البول تعطي خليطا يبعث على التغوط .
- تريدين كوكاكولا أو حليب رائب ؟
حليب رائب يا مجوسية ؟ رشوة هذه أم ماذا ؟ بالله عليك لا أريد شيئا , أريدك أن تغربي عن سمائي , أريد سما اسأليه ان كا ن لديه سم .
أخذت زجاجة كوكاكولا و شربتها دفعة واحدة . مسحت العرق عن وجهها , كانت تتمتم وحدها :
- الى درت شي حسنة وقفت لي اليوم .
حسنة ؟ عن أي حسنة تتكلمين ؟ هل ما كنت تفعلينه في الطابق الأول حسنة ؟ و ما كنت تفعلينه في الشقق المعفنة الأخرى حسنات ؟ دخلت متسولة , أعطتها عشرين فرنكا وهي تتلو شيئا في سرها . هل العشرون فرنكا التي أعطيتها للمتسولة هي التي ستدرؤ عنك الشر ؟ هي الحسنة ؟
كانت لاتزال تكلم نفسها:
- لوالتقيته وجها لوجه ماذا كان سيحدث ؟
تضرب فخذيها بكفيها . نظرت الي ثم وضعت يديها على عينيها ثم على أذنيها ثم على فمها. فهمت. لا أرى , لاأسمع , لا أتكلم . أتكلم ؟ لست على استعداد أن أبيت ليلتي في المرحاض .

دخلنا الى البيت كانت والدتي غاضبة جدا لتأخرنا وقبل أن تفتح أمي فمها سحبتها خديجة من يدها كمعزة تائهة وقالت لها:
- كنت عند فقيه
- الفقيه السوسي ؟
- لا فقيه آخر كيشوف في عظم اليهودي ؟
نسيت والدتي غضبها و كل ما حضرته في غيابنا من خصام وسب وشتم و فتحت عيناها دهشة . أما أنا فلم أعد افتح فمي دهشة و لم تعد تتسع حدقتاعينيَّ . مع خديجة أنتظر كل شيء واي شيء . ( أكملي حكايتك , ماذا رأى الفقيه في عظم اليهودي ؟ أعرف ما ستقولين مسبقا وأي حكاية ستحكين . احكي يا شهرزاد . شهرزاد سترفع راية الاستسلام أمام حكاياتك العجيبة , وامي طفلة صغيرة تصدق كل الحكايا والأكاذيب .
- قال الفقيه أن أبي فاسق .
- فاسق ؟ كيف ؟
- قال انه يذهب لدار قوادة و يصرف كل أمواله هناك .
هزت أمي كتفيها بلا مبالاة :
- انه يكذب . والدك يصلي كل وقت بوقته , ويصوم كل يوم اثنين و خميس .
- طلبي التسليم يا أمي .
- التسليم .
يأتي أبي ليلا , يامر والدتي بتجهيز الحمام , يصفر وجه أمي تقول له :
- لقد أخذت حمامك صباحا وليس من عاداتك أن تستحم مرتين في اليوم الواحد .
- لقد تعبت في المحل . شغل كثير و عرقت . ثم أنت ما شانك ؟ انا حر. أستحم مرتين أو عشرة في اليوم الواحد , أنا من يدفع فاتورة الماء والكهرباء .
تبادلت خديجة ووالدتي نظرات ذات مغزى . دخلت والدتي المطبخ , تبعتها خديجة وقالت لها بانتصار :
- شفت ؟ الفقيه عنده الحق .
صمتت والدتي و محت دموعها.
صرخت فيها خديجة :
- لماذا تبكين ؟ فيقي من الغفلة . هذه الأموال التي يصرفها على القحاب نحن أولى بها.طبعا ما دمت لا تطلبين منه لا جلالبية ولا دمليج , و يرمي لنا كل يوم فرنكات و ينصرف . عندما تكثر الأموال في يده يصرفها على الأخريات . و قد قال عمي ابراهيم ..
و تقاطعها والدتي :
- من هو عمي ابراهيم ؟
تتلعثم خديجة :
- أ.أ. أقصد الفقيه ينادونه عمي ابراهيم . قال أن أبي يصرف باسراف . عندما يأخذ حمامه و يتعشى قولي له أن يشتري لك جلبابا ولا تنامي حتى تأخذي النقود منه .
تنفذ والدتي كل الأوامر . كأن خديجة تحمل آلة للتحكم عن بعد تسيرها كما تريد . تتصرف والدتي دون تفكير أو عقل أجلس أنا و خديجة في غرفة النوم ننتظر نتيجة المفاوضات . نسمع صراخا وضربا و بكاء , فنعلم أن النتيجة فاشلة . تأتي أمي الى غرفتنا تنام معنا. ليلا أتسلل اليها . أنام في حضنها , ادفن رأسي بين ثنايا عنقها , أسرق بعض الدفء والحب وأنام .

أحاول أن أتذكر الأشياء الجميلة في حياتي , فلا أكاد أجد شيئا. حياتي ليس فيها سوى الخوف والحزن والمرض .

أتذكر أول مرة أحببت فيها, و مع ذلك لا أدري ان كانت ذكرى محزنة أم جميلة . كان يسكن في حينا و في العمارة المواجهة لبيتنا. أصعد الى السطح واطيل النظر اليه. كان وسيما كثيف الشعر أسوده و ذو شارب كث و عيناه خضراوان. كان يشبه نجوم السينما. لم يكن من أبناء بلدي ولم أكن أعرف اسمه أو ماذا يفعل فلذلك أسميته " حسن " و تخيلت أنه طالب في كلية الطب , وانه مصري الجنسية .

كنت أعرف متى يذهب الى الكلية و متى يأتي منها. أطل من الشرفة , ألتهمه بعيني . لوينظر الي فقط ؟ لكن لم يكن يحس بوجودي أبدا . أحببته بكل قوة فتاة تبلغ السادسة عشرة من عمرها تعاني الكبت والحرمان . حكيت لزميلتي في القسم عن حبي اليتيم , أملت علي فكرة جهنمية : أكتبي له رسالة و سأرميها تحت عقب باب بيته . " هكذا قالت . فرحت . كيف لم تخطر ببالي هذه الفكرة ؟ كتبت رسالة ملتهبة و بقلم أحمر ووضعت في قلب الرسالة وردة حمراء و لكن المضحك المبكي في الأمر أن صديقتي رمت الرسالة بالخطأ تحت عقب باب أناس يسكنون بالطابق الرابع في حين أن " حبيبي " يسكن في الطابق الخامس . وكانت الفضيحة . علم أهلي بالخبر . استنطاق جديد و ضرب و بكاء , ألم , حراسة مشددة و لم أعد اذهب الى المدرسة لوحدي بل برفقة " قدورالقذر" لكي " يحرسني " و " يحميني " . و كل شيء من أجل الحبيب يهون وأنا أنتظر أن يأتي حبيبي و ينقذني مما انا فيه و نتزوج و نعيش في ثبات و نبات و نخلف صبيان و بنات . هكذا علمونا في الأفلام المصرية . لكن حبيبي لم يكن يعلم بما يحدث حوله أو يعلم و يتجاهل . و عاد الى بلده , وقدا كان لبنانيا وليس مصريا واسمه " نايف " وليس " حسن " و يدرس الحقوق و ليس الطب .

كبرنا جميعا . " قدور القذر" سافر الى فرنسا و تزوج فرنسية وانجب منها . و تزوجت جميع شيقاتي الا خديجة , تجاوز عمرها الثلاثين سنة . أصبحت عصبية أكثر من المعتاد . تكاد تجن . كانت على استعداد أن تفعل أي شيء من أجل الزواج . لم تترك فقهاء ولا عرافات . جربت جميع الوصفات دون جدوى . و كانت تتقرب من كل امرأة تعرف أن لديها ابنا أو شقيقا في سن الزواج .

أخيرا تصيدت عريسا . كان وسيما جدا . أنيقا يرتدي دائما بدلة و ربطة عنق و حذاء لامعا. ورائحة عطره تسبقة . لكن ما ان يتكلم حتى يصبح المرء يطلب شيئا واحدا : متى يقفل هذا الشخص فمه ؟ كان لا يحسن الا شيئين اثنين : الأكل أو الحديث عن أصناف الطعام . و عندما يصمت فلأن عيناه مثبتتان بكل وقاحة على مؤخرة زوجة أخي الممتلئة شحما و لحما . لم يكن شخصا يبعث على الارتياح أبدا . كانت خديجة تبدو متلهفة عليه . ما ان يحضر حتى تتلاشى أمامه , وكان ينظر اليها بتعال و يعاملها بلا مبالاة . شيء غير محدد جعلنا نحس أن في الموضوع حكاية غير مريحة .
في يوم ما جاء شقيقي و قال لي :
- سمعت خديجة بالصدفة توصي ساعي البريد أن يحتفظ لها بجميع الرسائل البنكية ويسلمها لها شخصيا واعطته ورقة نقدية من فئة خمسين درهما.
- أحسست بالوساوس والشكوك تملأ رأسي لكن تظاهرت باللامبالاة :
- نقودها و هي حرة فيها, تفعل بها ما تشاء .
- نقودها ؟ أريد أن أفهم شيئا واحدا : كيف يكون لها رصيد ضخم بهذا الشكل و هي لا تعمل ؟
- أنت تعرف أن الرصيد مشترك بينها وبين والدتي . ووالدتي تضع النقود التي تحصلها من الايجار و..
أسكتني باشارة من يده :
- لاتكملي . أنت تحاولين اقناعي بشيء أنت لست مقتنعة به أصلا . البيت الذي تملكه والدتي لا يزيد عن غرفتين في المدينة القديمة , وايجار الغرفتين يكفي بالكاد لشراء علبتي سجائر و " سندويتش " , و خديجة لها رصيد بالملايين جعلته مشتركا مع والدتي للتمويه فقط . لست غبيا .
صرخت فيه بعصبية :
- مادمت لست غبيا فلماذا تكثر من طرح الأسئلة ؟
- أريد أن أواجهها واعرف من أين لها كل هذه النقود ؟
بعصبية اكبر صرخت فيه :
- واجهها اذن ماذا تنتظر؟ انها بالطابق الثاني تحضر لوازم عرسها , اذهب واسألها. لكن بودي لواسالك أنا كذلك : لماذا لم تسألها قبل الآن ؟ لماذا لم تقل من أين لك هذا عندما كانت تدفع مصاريف دراستك في المدرسة الراقية الحرة التي اخترتها عوض الجامعة ؟ أربع سنوات و هي تدفع مصاريف دراستك و ملابسك و مصروف جيبك و لم تفكر في طرح أ ي سؤال عليها , والآن بعدما تخرجت واصبحت في مركز مرموق أصبحت تطرح الأسئلة و تستعرض عضلاتك و رجولتك .
احمر وجهه , تلعثم , كور قبضته و ضرب المائدة الرخامية :
- ماذا تقصدين ؟ أنني كنت أعرف و..
- لم تكن وحدك تعرف , كلكم , كلنا.
انصرف و يلعن جذور أجدادنا جميعا.
و بعد أسبوع جاء شقيقي ثانية و علامة الانتصار بادية على وجهه و بيده رسالة :
- لقد صدق حدسي . أنظري هذه رسالة من البنك . لقد سحبت خديجة سبعين ألف درهم على دفعتين , أنظري جيدا .
و نظرت جيدا . أجل لقد سحبت سبعين ألف درهم ثم قلت ببلاهة :
- ماذا يعني هذا ؟
- سأقول لك ما ذا يعني . لقد اشترت عريسا . أجل هي من دفعت مهرها واكترت الشقة واثثتها و جهزت نفسها. هذه كل الحكاية .
كنت أعرف انه صادق في كل شيء لكن قلت له :
- لا تتعجل في حكمك عليها , ربما سحبت النقوذ من أجل شيء ما .
- مثل ماذا مثلا ؟ لماذا تدافعين عنها ؟
- اقترب عرسها ولا نريد مشاكل , هذا كل ما في الامر.
- هذا الزواج لا يجب ان يتم . سأواجهها .
افعل ما بدا لك , لكن اتركوني و شأني .
- انني أنتظر قدومها, ستسمعين و سترين , ولن أترككها حتى تعترف من أين أتت بهذه النقود اولا وبعدها أين تبخرت ؟
واتت خديجة فرحة , تحمل لفافات كثيرة . كانت تنادي على والدتي وامينة لتريهما ما تحويه اللفافات .
بعدها جاء شقيقي مكشرا ووضع ورقة البنك أمام عينيها وقال لها :
- مامعنى هذا ؟
تلون وجه خديجة بكل الألوان , كانت يداها ترتعشان وهي تمسك الورقة ثم قالت متلعثمة :
- من أين أتيت بهذه الورقة ؟
- لايهم من أين أتيت بها, المهم أن تشرحي من أين لك بهذه الملايين واين تبخرت ؟
- على ما يبدوان البنك ارتكب خطأ ما سأذهب فورا اليهم .
أجابها بسخرية :
- الأبناك مغلقة أيام الأحاد .
- اذن سأذهب اليهم غدا .
- أنت لن تذهبي الى أي مكان لأنك تعرفين أين صرفت هذه النقود , لقد اشتريت بها عريسا , و دفعت بها مهرك وايجار الشقة و جهزت نفسك .

كانت والدتي تجيل النظر اليهما فاتحة فاها وهي لا تكاد تصدق ما تسمع . عادة عندما لا تجد خديجة ما تدافع به عن نفسها فهي تنخرط في نوبة بكاء هستيرية و يزرق وجهها و تحلف بقطع رجليها ويديها و مؤخرتها واصابتها بالمرض الخايب,( هل يوجد مرض زوين ؟) ثم تسقط أرضا .. تأخذ في الركل بقدميها ويديها كأنها في حلبة المصارعة ... تتدلى شفتها السفلى .. يخرج الزبد من فمها و تصرخ والدتي جزعا :
- المسلمين , المسلمين , اعطيوني السوارت .
وتضع المفاتيح في يدها و تقرأ والدتي كل ما تحفظه من سور قرآنية بكثير من الأخطاء - كل ماتحفظه المعوذتين والفاتحة - وتهدأ خديجة رويدا رويدا. تأتيها أمينة بكأس ماء مذاب فيه قطعة سكر . يتعاون الجميع على حملها فوق السرير . نتركها لتنام . يبتلع شقيقي لسانه و ينصرف كما سبق لي وابتلعت لساني و صمتت .

فجأة ودون سابق انذار ماتت امي .هكذا فجأة . كان كل شيء هادئا في ذلك الصباح الخريفي . في ذلك اليوم رحلت والدتي حاملة معها أحزانها و همومها وانزوت بعيدا بسنواتها الخمسين .
كانت تحس آلاما في قلبها , حملتها شقيقتي الى الطبيب و بعد ذلك بساعات سمعت صرخة : أمي ماتت , أمي ماتت .
قبل و فاتها بأسبوع , أمسكت يدي و هي مسجاة على ظهرها و قالت لي :
- سامحيني يا ابنتي .
أحسست بالمرارة في حلقي . ابتلعت ريقي و قلت لها
- على ماذا أسامحك ؟ أنا من يطلب عفوك ورضاك .
كانت تبكي . عاودت امساك يدي :
- سامحيني على كل ما فعلته لك في الطفولة , أنا أمية لا أفهم في أصول التربية . خديجة كانت تسيرني , كنت أصدق كل ما كانت تقول . فهمت متأخرة كل أكاذيبها لكن الأوان فات . والدك ألغى شخصيتي واختك ألغت علقلي . كنت كالآلة أفعل ما يأمراني به . ظلمتك يا طفلتي , ظلمتك .

أنتحب . أبكي بصوت مسموع . ليتك فعلت هذا قبل الآن بكثير لكنت جنبتني آلآما نفسية كثيرة . لم أكرهك أبدا.. أبدا أمي بل لم أفكر في عتابك , كنت أفهم كل شيء . فهمت كل شيء مبكرا . كنت أعلم أنه لا حول ولا قوة لك . كنت طفلة لا تعرفين من أمور الدنيا الا ما تحكيه خديجة من أحاديث ملفقة
أحبك أمي .

حملوها واستقبلوها القبلة , نزعوا عنها جلبابها و غطوا وجهها بازار أبيض . كنت ألمس يدها , أجس نبضها , حبل الوريد في عنقها لعله ينبض . كيف تموت ؟ بكيت بحرقة . نزفت الدماء من أنفي , أغمي علي , أخذوني الى المستشفى و عندما عدت كانوا قد أخذوها الى متواها الأخير .

ذهبت أمي دون وداع , دون أن تضميني اليك , أشتاق اليك , أتمنى لوادفن رأسي بين ثنايا عنقك واستنشق عطرك الرائع مازلت أراك أمامي تعجنين الخبز الأسمر و تطبخين الطعام , أراك في الغرفة الكبرى تسبحين و تصلين , حتى في أحلامي أراك .. أبثك أشواقي , نتعانق , أستفيق.. أراك وقد خنقتي الدموع , أندم لأني استفقت واخاف أن أنام ثانية .. فأراك في حلمي وانهض لأجد الفراغ

هناك 3 تعليقات:

غير معرف يقول...

رائــــــــــــــــــــــــــعة
أنتظر البقية

غير معرف يقول...

سلام
اليوم قرات قصة ترانتسيس رائعة
احييك من جديد على هذه المبادرة

غير معرف يقول...

wach ghadia nab9a natssana?